فصل: فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صِيَامِ التّطَوّعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل الِاكْتِحَالُ لِلصّائِمِ:

وَرُوِيَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ اكْتَحَلَ وَهُوَ صَائِمٌ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي رَمَضَانَ وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ مِنْ الْإِثْمِدِ وَلَا يَصِحّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ فِي الْإِثْمِدِ لِيَتّقِهِ الصّائِمُ وَلَا يَصِحّ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صِيَامِ التّطَوّعِ:

كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُ حَتّى يُقَالَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتّى يُقَالَ لَا يَصُومُ وَمَا اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرَ رَمَضَانَ وَمَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِمّا يَصُومُ فِي شَعْبَانَ وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ عَنْهُ شَهْرٌ حَتّى يَصُومَ مِنْهُ. وَلَمْ يَصُمْ الثّلَاثَةَ الْأَشْهُرَ سَرْدًا كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النّاسِ وَلَا صَامَ رَجَبًا قَطّ وَلَا اسْتَحَبّ صِيَامَهُ بَلْ رُوِيَ عَنْهُ النّهْيُ عَنْ صِيَامِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَكَانَ يَتَحَرّى صِيَامَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُفْطِرُ أَيّامَ الْبِيضِ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ ذَكَرَهُ النّسَائِيّ. وَكَانَ يَحُضّ عَلَى صِيَامِهَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُ مِنْ غُرّةِ كُلّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد وَالنّسَائِيّ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيّ الشّهْرِ صَامَهَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ. وَأَمّا صِيَامُ عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ مَا رَأَيْته صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطّ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعَهُنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرُ وَثَلَاثَةُ أَيّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجّةِ وَيَصُومُ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيّامٍ مِنْ الشّهْرِ أَوْ الِاثْنَيْنِ مِنْ الشّهْرِ وَالْخَمِيس وَفِي لَفْظٍ الْخَمِيسَيْنِ. وَالْمُثْبِتُ مُقَدّمٌ عَلَى النّافِي إنْ صَحّ. وَأَمّا صِيَامُ سِتّةِ أَيّامٍ مِنْ شَوّالٍ فَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ صِيَامُهَا مَعَ رَمَضَانَ يَعْدِلُ صِيَامَ الدّهْرِ.

.صِيَامُ عَاشُورَاءَ:

وَأَمّا صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَإِنّهُ كَانَ يَتَحَرّى صَوْمَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَيّامِ وَلَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ تَصُومُهُ وَتُعَظّمُهُ فَقَالَ نَحْنُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْكُمْ. فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ فَلَمّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النّاسِ هَذَا وَقَالَ إنّمَا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ فَكَيْفَ يَقُولُ ابْنُ عَبّاسٍ: إنّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ؟ وَفِيهِ إشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ يَصُومُهُ فَلَمّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَتَغَدّى فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمّدٍ اُدْنُ إلَى الْغِدَاءِ. فَقَالَ أَوَلَيْسَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ وَهَلْ تَدْرِي مَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ؟ قَالَ وَمَا هُوَ؟ قَالَ إنّمَا هُوَ يَوْمٌ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ فَلَمّا نَزَلَ رَمَضَانُ تَرَكَهُ وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ يَوْمٌ تُعَظّمُهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إنْ شَاءَ اللّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التّاسِعَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. فَهَذَا فِيهِ أَنّ صَوْمَهُ وَالْأَمْرَ بِصِيَامِهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامِ وَحَدِيثُهُ الْمُتَقَدّمُ فِيهِ أَنّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةِ ثُمّ إنّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخْبَرَ أَنّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ تُرِكَ بِرَمَضَانَ وَهَذَا يُخَالِفُهُ حَدِيثُ ابْنُ عَبّاسٍ الْمَذْكُورُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ تُرِكَ فَرْضُهُ لِأَنّهُ لَمْ يُفْرَضْ لِمَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبْ اللّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ مُسْلِمًا رَوَى فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ لَمّا قِيلَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ هَذَا الْيَوْمَ تُعَظّمُهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى قَالَ إنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنّ التّاسِعَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْقَابِلُ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ قَالَ انْتَهَيْتُ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ وَهُوَ مُتَوَسّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ فَقُلْتُ لَهُ أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ. فَقَالَ إذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرّم فَاعْدُدْ وَأَصْبَحَ يَوْمَ التّاسِعِ صَائِمًا قُلْتُ هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُهُ؟ قَالَ نَعَمْ وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ صَوْمَهُ إنْ كَانَ وَاجِبًا مَفْرُوضًا فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقَضَائِهِ وَقَدْ فَاتَ تَبْيِيتُ النّيّةِ لَهُ مِنْ اللّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا فَكَيْفَ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْإِمْسَاكِ مَنْ كَانَ أَكَلَ؟ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالسّنَنِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدّدَةٍ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَمَرَ مَنْ كَانَ طَعِمَ فِيهِ أَنْ يَصُومَ بَقِيّةَ يَوْمِهِ وَهَذَا إنّمَا يَكُونُ فِي الْوَاجِبِ وَكَيْفَ يَصِحّ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَلَمّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ عَاشُورَاءُ وَاسْتِحْبَابُهُ لَمْ يُتْرَكْ؟ وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ جَعَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ التّاسِعِ وَأَخْبَرَ أَنّ هَكَذَا كَانَ يَصُومُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ الّذِي رَوَى عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ ذَكَرَهُ أَحْمَدُ. وَهُوَ الّذِي رَوَى: أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِرِ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ. فَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ بِعَوْنِ اللّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَوْفِيقِهِ أَمّا الْإِشْكَالُ الْأَوّلُ وَهُوَ أَنّهُ لَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنّ يَوْمَ قُدُومِهِ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَهُ فَإِنّهُ إنّمَا قَدِمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ ثَانِيَ عَشْرَةَ وَلَكِنّ أَوّلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ بِوُقُوعِ الْقِصّةِ فِي الْعَامِ الثّانِي الّذِي كَانَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمُدِينَةَ وَلَمْ يَكُنْ وَهُوَ بِمَكّةَ هَذَا إنْ كَانَ حِسَابُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي صَوْمِهِ بِالْأَشْهُرِ الْهِلَالِيّةِ وَإِنْ كَانَ بِالشّمْسِيّةِ زَالَ الْإِشْكَالُ بِالْكُلّيّةِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ الّذِي نَجّى اللّهُ فِيهِ مُوسَى هُوَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ أَوّلِ الْمُحَرّمِ فَضَبَطَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالشّهُورِ الشّمْسِيّةِ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَقْدَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَصَوْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ إنّمَا هُوَ بِحِسَابِ سَيْرِ الشّمْسِ وَصَوْمُ الْمُسْلِمِينَ إنّمَا هُوَ بِالشّهْرِ الْهِلَالِيّ وَكَذَلِكَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْنُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَظَهَرَ حُكْمُ هَذِهِ الْأَوْلَوِيّةِ فِي تَعْظِيمِ هَذَا الْيَوْمِ وَفِي تَعْيِينِهِ وَهُمْ أَخْطَئُوا تَعْيِينَهُ لِدَوَرَانِهِ فِي السّنَةِ الشّمْسِيّةِ كَمَا أَخْطَأَ النّصَارَى فِي تَعْيِينِ صَوْمِهِمْ بِأَنْ جَعَلُوهُ فِي فَصْلٍ مِنْ السّنَةِ تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَشْهُرُ. وَأَمّا الْإِشْكَالُ الثّانِي وَهُوَ أَنّ قُرَيْشًا كَانْت تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصُومُهُ فَلَا رَيْبَ أَنّ قُرَيْشًا كَانْت تُعَظّمُ هَذَا الْيَوْمَ وَكَانُوا يَكْسُونَ الْكَعْبَةَ فِيهِ وَصَوْمُهُ مِنْ تَمَامِ تَعْظِيمِهِ وَلَكِنْ إنّمَا كَانُوا يَعُدّونَ بِالْأَهِلّةِ فَكَانَ عِنْدَهُمْ عَاشِرُ الْمُحَرّمِ فَلَمّا قَدِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يُعَظّمُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَصُومُونَهُ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: هُوَ الْيَوْمُ الّذِي نَجّى اللّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْنُ أَحَقّ مِنْكُمْ بِمُوسَى فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ تَقْرِيرًا لِتَعْظِيمِهِ وَتَأْكِيدًا وَأَخْبَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ وَأُمّتَهُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْ الْيَهُودِ فَإِذَا صَامَهُ مُوسَى شُكْرًا لِلّهِ كُنّا أَحَقّ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ مِنْ الْيَهُودِ لَا سِيّمَا إذَا قُلْنَا: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يُخَالِفْهُ شَرْعُنَا. فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنّ مُوسَى صَامَهُ؟ قُلْنَا: ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا سَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا يَوْمٌ عَظِيمٌ نَجّى اللّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا لِلّهِ فَنَحْنُ نَصُومُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَحْنُ أَحَقّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ. فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمّا أَقَرّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُكَذّبْهُمْ عَلِمَ أَنّ مُوسَى صَامَهُ شُكْرًا لِلّهِ فَانْضَمّ هَذَا الْقَدْرُ إلَى التّعْظِيمِ الّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَازْدَادَ تَأْكِيدًا حَتّى بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي الْأَمْصَارِ بِصَوْمِهِ وَإِمْسَاكِ مَنْ كَانَ أَكَلَ وَالظّاهِرُ أَنّهُ حَتّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَوْجَبَهُ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ. وَأَمّا الْإِشْكَالُ الثّالِثُ وَهُوَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فَرْضُ رَمَضَانَ فَلَمّا نَزَلَ فَرْضُ رَمَضَانَ تَرَكَهُ فَهَذَا لَا يُمْكِنُ التّخَلّصُ مِنْهُ إلّا بِأَنّ صِيَامَهُ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ رَمَضَانَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْمَتْرُوكُ وُجُوبَ صَوْمِهِ لَا اسْتِحْبَابَهُ وَيَتَعَيّنُ هَذَا وَلَابُدّ لِأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ إنّ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنّ التّاسِعَ أَيْ مَعَهُ وَقَالَ خَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ أَيْ مَعَهُ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَأَمّا فِي أَوّلِ الْأَمْرِ فَكَانَ يُحِبّ مُوَافِقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءِ فَعُلِمَ أَنّ اسْتِحْبَابَهُ لَمْ يُتْرَكْ. وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ إنّ صَوْمَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا أَحَدُ لْأَمْرَيْنِ إمّا أَنْ يَقُولَ بِتَرْكِ اسْتِحْبَابِهِ فَلَمْ يَبْقَ مُسْتَحَبّا أَوْ يَقُولُ هَذَا قَالَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِرَأْيِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ اسْتِحْبَابُ صَوْمِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَثّهُمْ عَلَى صِيَامِهِ وَأَخْبَرَ أَنّ صَوْمَهُ يُكَفّرُ السّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَاسْتَمَرّ الصّحَابَةُ عَلَى صِيَامِهِ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ بِالنّهْيِ عَنْهُ وَكَرَاهَةُ صَوْمِهِ فَعُلِمَ أَنّ الّذِي تُرِكَ وُجُوبُهُ لَا اسْتِحْبَابُهُ. فَإِنْ قِيلَ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ الْمُتّفَقُ عَلَى صِحّتِهِ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ فَرْضِيّتِهِ وَإِنّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَطّ. فَالْجَوَابُ أَنّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ اسْتِمْرَارِ وُجُوبِهِ وَأَنّهُ الْآنَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَلَا يَنْفِي وُجُوبًا مُتَقَدّمًا مَنْسُوخًا فَإِنّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ لَمّا كَانَ وَاجِبًا وَنُسِخَ وُجُوبُهُ إنّ اللّهَ لَمْ يَكْتُبْهُ عَلَيْنَا. وَجَوَابٌ ثَانٍ أَنّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ النّفْيُ عَامّا فِي الزّمَانِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ فَيُخَصّ بِأَدِلّةِ الْوُجُوبِ فِي الْمَاضِي وَتَرْكُ النّفْيِ فِي اسْتِمْرَارِ الْوُجُوبِ. وَجَوَابٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ وَوُجُوبُهُ مُسْتَفَادًا مِنْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنّهُ كَتَبَهُ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} [الْبَقَرَةُ 183] فَأَخْبَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي هَذَا الْمَكْتُوبِ الّذِي كَتَبَهُ اللّهُ عَلَيْنَا دَفْعًا لِتَوَهّمِ مَنْ يَتَوَهّمُ أَنّهُ دَاخِلٌ فِيمَا كَتَبَهُ اللّهُ عَلَيْنَا فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَمْرِ السّابِقِ بِصِيَامِهِ الّذِي صَارَ مَنْسُوخًا بِهَذَا الصّيَامِ الْمَكْتُوبِ. يُوَضّحُ هَذَا أَنّ مُعَاوِيَةَ إنّمَا سُمِعَ هَذَا مِنْهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكّةَ وَاسْتِقْرَارِ فَرْضِ رَمَضَانَ وَنَسْخِ وُجُوبِ عَاشُورَاءَ بِهِ. وَاَلّذِينَ شَهِدُوا أَمْرَهُ بِصِيَامِهِ وَالنّدَاءِ بِذَلِكَ وَبِالْإِمْسَاكِ لِمَنْ أَكَلَ شَهِدُوا ذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ وَفَرْضُ رَمَضَانَ كَانَ فِي السّنَةِ الثّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ صَامَ تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ فَمَنْ شَهِدَ الْأَمْرَ بِصِيَامِهِ شَهِدَهُ قَبْلَ نُزُولِ فَرْضِ رَمَضَانَ وَمَنْ شَهِدَ الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِ فَرْضِهِ شَهِدَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ رَمَضَانَ وَإِنْ لَمْ يَسْلُكْ هَذَا الْمَسْلَكَ تَنَاقَضَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَاضْطَرَبَتْ. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَكُونُ فَرْضًا وَلَمْ يَحْصُلْ تَبْيِيتُ النّيّةِ مِنْ اللّيْلِ وَقَدْ قَالَ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيّتْ الصّيَامَ مِنْ اللّيْلِ؟ فَالْجَوَابُ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَلَامِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ مِنْ قَوْلِ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ؟ فَأَمّا حَدِيثُ حَفْصَةَ فَأَوْقَفَهُ عَلَيْهَا مَعْمَرٌ وَالزّهْرِيّ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيّ عَنْ الزّهْرِيّ وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ الْمَوْقُوفُ أَصَحّ قَالَ التّرْمِذِيّ: وَقَدْ رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ وَهُوَ أَصَحّ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَحّحُ رَفْعَهُ لِثِقَةِ رَافِعِهِ وَعَدَالَتِهِ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَيْضًا: رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا وَاخْتُلِفَ فِي تَصْحِيحِ رَفْعِهِ. فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ ثَبَتَ رَفْعُهُ فَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا إنّمَا قَالَهُ بَعْدَ فَرْضِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ مُتَأَخّرٌ عَنْ الْأَمْرِ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَذَلِكَ تَجْدِيدُ حُكْمٍ وَاجِبٍ وَهُوَ التّبْيِيتُ وَلَيْسَ نَسْخًا لِحُكْمِ ثَابِتٍ بِخِطَابِ فَإِجْزَاءُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِنِيّةِ مِنْ النّهَارِ كَانَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ وَقَبْلَ فَرْضِ التّبْيِيتِ مِنْ اللّيْلِ ثُمّ نُسِخَ وُجُوبُ صَوْمِهِ بِرَمَضَانَ وَتَجَدّدَ وُجُوبُ التّبْيِيتِ فَهَذِهِ طَرِيقَةٌ. وَطَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ هِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنّ وُجُوبَ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ تَضَمّنَ أَمْرَيْنِ وُجُوبَ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِجْزَاءَ صَوْمِهِ بِنْيَةٍ مِنْ النّهَارِ ثُمّ نُسِخَ تَعْيِينُ الْوَاجِبِ بِوَاجِبِ آخَرَ فَبَقِيَ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ بِنِيّةِ مِنْ النّهَارِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ. وَطَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ أَنّ الْوَاجِبَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ وَوُجُوبُ عَاشُورَاءَ إنّمَا عُلِمَ مِنْ النّهَارِ وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَكُنْ التّبْيِيتُ مُمْكِنًا فَالنّيّةُ وَجَبَتْ وَقْتَ تَجَدّدِ الْوُجُوبِ وَالْعِلْمِ بِهِ وَإِلّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. قَالُوا: وَعَلَى هَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيّنَةُ بِالرّؤْيَةِ فِي أَثْنَاءِ النّهَارِ أَجْزَأَ صَوْمُهُ بِنِيّةِ مُقَارِنَةٍ لِلْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ وَأَصْلُهُ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ شَيْخِنَا وَهِيَ كَمَا تَرَاهَا أَصَحّ الطّرُقِ وَأَقْرَبُهَا إلَى مُوَافَقَةِ أُصُولِ الشّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ وَعَلَيْهَا تَدُلّ الطّرِيقَةِ لَابُدّ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشّرْعِ أَوْ مُخَالَفَةُ بَعْضِ الْآثَارِ. وَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَأْمُرْ أَهْلَ قُبَاءَ بِإِعَادَةِ الصّلَاةِ الّتِي صَلّوْا بَعْضَهَا إلَى الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ إذْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ وُجُوبُ التّحَوّلِ فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ وُجُوبُ فَرْضِ الصّوْمِ أَوْ لَمْ يَتَمَكّنْ مِنْ الْعِلْمِ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقَضَاءِ وَلَا يُقَالُ إنّهُ تَرَكَ التّبْيِيتَ الْوَاجِبَ إذْ وُجُوبُ التّبْيِيتِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْمُبَيّتِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الظّهُورِ. وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذِهِ الطّرِيقَةَ أَصَحّ مِنْ طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ كَانَ عَاشُورَاءُ فَرْضًا وَكَانَ يُجْزِئُ صِيَامُهُ بِنْيَةٍ مِنْ النّهَارِ ثُمّ نُسِخَ الْحُكْمُ بِوُجُوبِهِ فَنُسِخَتْ مُتَعَلّقَاتُهُ وَمِنْ مُتَعَلّقَاتِهِ إجْزَاءُ صِيَامِهِ بِنِيّةِ مِنْ النّهَارِ لِأَنّ مُتَعَلّقَاتِهِ تَابِعَةٌ لَهُ وَإِذَا زَالَ الْمَتْبُوعُ زَالَتْ تَوَابِعُهُ وَتَعَلّقَاتُهُ فَإِنّ إجْزَاءِ الصّوْمِ الْوَاجِبِ بِنْيَةٍ مِنْ النّهَارِ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُتَعَلّقَاتِ خُصُوصِ هَذَا الْيَوْمِ بَلْ مِنْ مُتَعَلّقَاتِ الصّوْمِ الْوَاجِبِ وَالصّوْمُ الْوَاجِبُ لَمْ يَزُلْ وَإِنّمَا زَالَ تَعْيِينُهُ فَنُقِلَ مِنْ مَحَلّ إلَى مَحَلّ وَالْإِجْزَاءُ بِنْيَةٍ مِنْ النّهَارِ وَعَدَمِهِ مِنْ تَوَابِعِ أَصْلِ الصّوْمِ لَا تَعْيِينِهِ. وَأَصَحّ مِنْ طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ إنّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا قَطّ لِأَنّهُ قَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِهِ وَتَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِالنّدَاءِ الْعَامّ وَزِيَادَةُ تَأْكِيدِهِ بِالْأَمْرِ لِمَنْ كَانَ أَكَلَ بِالْإِمْسَاكِ وَكُلّ هَذَا ظَاهِرٌ قَوِيّ فِي الْوُجُوبِ وَيَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنّهُ لَمّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ عَاشُورَاءُ وَمَعْلُومٌ أَنّ اسْتِحْبَابَهُ لَمْ يُتْرَكْ بِالْأَدِلّةِ الّتِي تَقَدّمَتْ وَغَيْرُهَا فَيَتَعَيّنُ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ وُجُوبَهُ فَهَذِهِ خَمْسُ طُرُقٍ لِلنّاسِ فِي ذَلِكَ. وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَأَمّا الْإِشْكَالُ الرّابِعُ وَهُوَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ: «لَئِنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنّ التّاسِعَ» وَأَنّهُ تُوُفّيَ قَبْلَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَصُومُ التّاسِعَ فَابْنُ عَبّاسٍ رَوَى هَذَا وَهَذَا وَصَحّ عَنْهُ هَذَا وَهَذَا وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَصُومَ التّاسِعَ وَيُخْبِرَ أَنّهُ إنْ بَقِيَ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ صَامَهُ أَوْ يَكُونُ ابْنُ عَبّاسٍ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلِهِ مُسْتَنِدًا إلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ كَانَ يَفْعَلُ لَوْ بَقِيَ وَمُطْلَقًا إذَا عُلِمَ الْحَالُ وَعَلَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ. وَأَمّا الْإِشْكَالُ الْخَامِسُ فَقَدْ تَقَدّمَ جَوَابُهُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَأَمّا الْإِشْكَالُ السّادِسُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: اُعْدُدْ وَأَصْبَحَ يَوْمَ التّاسِعِ صَائِمًا. فَمَنْ تَأَمّلَ مَجْمُوعَ رِوَايَاتِ ابْنِ عَبّاسٍ تَبَيّنَ لَهُ زَوَالُ الْإِشْكَالِ وَسِعَةُ عِلْمِ ابْنِ عَبّاسٍ فَإِنّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ التّاسِعُ بَلْ قَالَ لِلسّائِلِ صُمْ الْيَوْمَ التّاسِعَ وَاكْتَفَى بِمَعْرِفَةِ السّائِلِ أَنّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ الّذِي يَعُدّهُ النّاسُ كُلّهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَأَرْشَدَ السّائِلَ إلَى صِيَامِ التّاسِعِ مَعَهُ وَأَخْبَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَصُومُهُ كَذَلِكَ. فَإِمّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ هُوَ الْأَوْلَى وَإِمّا أَنْ يَكُونَ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ وَعَزْمِهِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَنّهُ هُوَ الّذِي رَوَى: صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ وَهُوَ الّذِي رَوَى: أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِرِ وَكُلّ هَذِهِ الْآثَارِ عَنْهُ يُصَدّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُؤَيّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَمَرَاتِبُ صَوْمِهِ ثَلَاثَةٌ أَكْمَلُهَا: أَنْ يُصَامَ قَبْلَهُ يَوْمٌ وَبَعْدَهُ يَوْمٌ وَيَلِي ذَلِكَ أَنْ يُصَامَ التّاسِعُ وَالْعَاشِرُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ وَيَلِي ذَلِكَ إفْرَادُ الْعَاشِرِ وَحْدَهُ بِالصّوْمِ. وَأَمّا إفْرَادُ التّاسِعِ فَمِنْ نَقْصِ فَهْمِ الْآثَارِ وَعَدَمِ تَتَبّعِ أَلْفَاظِهَا وَطُرُقِهَا وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ اللّغَةِ وَالشّرْعِ وَاللّهُ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ. فَقَالَ قَدْ ظَهَرَ أَنّ الْقَصْدَ مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِهَا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمّا بِنَقْلِ الْعَاشِرِ إلَى التّاسِعِ أَوْ بِصِيَامِهِمَا مَعًا. وَقَوْلُهُ إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ صُمْنَا التّاسِعَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ. فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيّنَ لَنَا مُرَادُهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ صِيَامَ الْيَوْمَيْنِ مَعًا وَالطّرِيقَةُ الّتِي ذَكَرْنَاهَا أَصْوَبُ إنْ شَاءَ اللّهُ وَمَجْمُوعُ أَحَادِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ عَلَيْهَا تَدُلّ لِأَنّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ خَالِفُوا الْيَهُودَ صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ التّرْمِذِيّ أُمِرْنَا بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِر يُبَيّنُ صِحّةَ الطّرِيقَةِ الّتِي سَلَكْنَاهَا وَاللّهُ أَعْلَمُ.